محكمة النقض
محكمة النقض تؤسس لاتجاه جديد بشأن استقلال الاستئناف الفرعي عن الاستئناف الأصلي
جاء في قرار حديث لمحكمة النقض المغربية، صادر عن القسم الأول من الغرفة المختصة بالأحوال الشخصية و الميراث بتاريخ 03 نونبر 2020، ما يلي: "حيث صح ما عابه الطاعنان على القرار، ذلك أنه بمقتضى الفصل 135 من قانون المسطرة المدنية، فإنه يحق للمستأنف عليه رفع استئناف فرعي في كل الأحوال ولو كان قد طلب دون تحفظ تبليغ الحكم، ويكون كل استئناف نتج عن الاستئناف الأصلي مقبولا في جميع الأحوال، غير أنه لا يمكن أن يكون سببا في تأخير الفصل في الاستئناف الأصلي.والمحكمة لما جنحت إلى خلاف ذلك وعللت ما انتهت إليه أن الفرع يتبع الأصل وجودا وعدما، وأن القول بعدم قبول الاستئناف الأصلي يستوجب القول تبعا لذلك بعدم قبول الاستئناف الفرعي، فإنها قد خرقت الفصل المحتج به الذي يسمح بممارسة الاستئناف الفرعي في جميع الأحوال، وعرضت قرارها للنقض".
يشكل هذا القرار منعطفًا بارزًا في مسار الاجتهاد القضائي المغربي، إذ أحدث تحولا دقيقا في فهم العلاقة بين الاستئناف الأصلي والاستئناف الفرعي، بعد أن كان المبدأ المستقر لسنوات طويلة يقضي بأن وجود الاستئناف الأصلي شرط لوجود الاستئناف الفرعي، وأن سقوط الأصل يستتبع حتما سقوط الفرع. فالقضاء المغربي ظل، في اتجاهه التقليدي، يعتبر أن الاستئناف الفرعي ليس إلا ردًّا على الاستئناف الأصلي، وأن هذا الأخير يمثل الأساس الذي يقوم عليه، تطبيقا للقاعدة الفقهية “الفرع يتبع الأصل وجودا وعدما”. وعلى هذا الأساس، كان كل تنازل عن الاستئناف الأصلي، أو الحكم بعدم قبوله شكلا، يؤدي بالضرورة إلى عدم قبول الاستئناف الفرعي تبعا له، تأسيسًا على فكرة التبعية القانونية والارتباط العضوي بين الطعنين.
غير أن تطور الممارسة القضائية وما أفرزته من وقائع عملية كشفت عن قصور هذا التصور، خاصة في الحالات التي يؤدي فيها التنازل عن الاستئناف الأصلي من طرف أحد الخصوم إلى حرمان الطرف الآخر من حقه في ممارسة استئنافه الفرعي رغم استقلاله عنه، وهو ما يمس جوهر العدالة ويخل بمبدأ المساواة في استعمال الحقوق الإجرائية. ففي كثير من الحالات، كان المستأنف الأصلي يتحكم بإرادته المنفردة في مصير النزاع، بمجرد تنازله عن استئنافه، فيسقط تبعا لذلك استئناف خصمه الفرعي، رغم أن هذا الأخير لم يكن طرفا في فعل التنازل ولا مسؤولا عنه.
وانطلاقا من هذه الإشكالية، بدأ اتجاه قضائي جديد في التبلور، رافضا لمنطق التبعية المطلقة، ومؤكدا على أن الاستئناف الفرعي وإن كان ينشأ عن وجود استئناف أصلي، فإنه يستقل عنه من حيث الأثر القانوني ولا يجوز أن يُلغى تبعا له. وقد استند هذا الاتجاه إلى فلسفة النصوص القانونية ذاتها، خاصة الفصول 119 و120 و135 من قانون المسطرة المدنية، التي تكرّس مبدأ المساواة بين الخصوم في استعمال وسائل الدفاع وتمنع أي طرف من التحكم في مصير الدعوى بإرادته المنفردة.
وفي هذا السياق، جاء اجتهاد محكمة النقض لسنة 2020 ليكرّس هذا الفهم المتطور، مؤكدا أن عدم قبول الاستئناف الأصلي لا يمكن أن يكون سببا في عدم قبول الاستئناف الفرعي. فعبارة “في جميع الأحوال” الواردة في الفصل 135 من قانون المسطرة المدنية تمثل دلالة تشريعية واضحة على أن المشرع أراد إطلاق الحق في ممارسة الاستئناف الفرعي دون تقييده بمصير الاستئناف الأصلي، بما يضمن استقلالية كل طعن عن الآخر. وقد اعتبرت محكمة النقض أن القول بعكس ذلك يعد خرقا صريحا لمقتضيات القانون ومساسا بضمانات التقاضي على درجتين، لأن حق الطعن لا يمكن أن يُقيد بإرادة الطرف الخصم.
ويستند هذا الاجتهاد إلى منطق قانوني وحقوقي متين، يقوم على أن الإرادتين الإجرائيتين – إرادة المستأنف أصليا وإرادة المستأنف عليه فرعيا – منفصلتان ومستقلتان، وأن سقوط الأولى لا يؤدي بالضرورة إلى سقوط الثانية. كما أن تكريس هذا المبدأ يحقق الأمن القضائي ويعزز الثقة في العدالة، من خلال منع إسقاط الحقوق الإجرائية بناء على أسباب شكلية أو تصرفات أحادية الجانب.
إن هذا التحول في اتجاه محكمة النقض يعبر عن نضج في التفكير القضائي المغربي وانتقال نحو تأويل أكثر إنصافا للنصوص الإجرائية، إذ لم يعد الهدف هو مجرد تطبيق حرفي للقانون، بل تحقيق التوازن بين حقوق الخصوم وضمان العدالة الإجرائية. فالاجتهاد الحديث وضع حدا للمنطق الشكلي الصرف الذي كان يربط مصير الطعن الفرعي بالطعن الأصلي، وكرس بدله مبدأ استقلالية الحقوق الإجرائية، وهو ما ينسجم مع روح الدستور الذي يجعل من الحق في التقاضي والدفاع ضمانة أساسية لسيادة القانون.
وبذلك، فإن القرار الصادر بتاريخ 03 نونبر 2020 يمثل خطوة متقدمة في مسار تطور القضاء المغربي، إذ تجاوز المفهوم التقليدي للعلاقة بين الأصل والفرع نحو رؤية أكثر موضوعية وإنسانية، قائمة على صون حق التقاضي، وضمان المساواة بين الخصوم، وتكريس قضاء يوازن بين النص وروحه، بين الشكل والمضمون، وبين الحق والإرادة.
COMMENTS